عُين ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني الذي استقال فجأة في عام 2016، وزيراً للخارجية. وهكذا، سيتولى كاميرون الآن، البالغ من العمر 57 عاماً، تقديم سياسات بلاده فيما يتعلق بإسرائيل وغزة والحرب في أوكرانيا، من بين أمور أخرى. 
عودة كاميرون إلى مهامه الحكومية، وهذا أمر غير مسبوق خلال نصف القرن الماضي، أدهشت الساسة البريطانيين، وخاصة أن أحداً لم يسرّب الخطة إلى وسائل الإعلام. في هذه المرة، نجح «داونينغ ستريت» (رئاسة الوزراء البريطانية)، الذي يشبه الغربال عادة، في الحفاظ على سرية التعيين الوشيك. وهي معجزة أخرى!
ويذكر أن آخر رئيسي وزراء سابقين يخدمان رئيسي وزراء حاليين كانا أليك دوغلاس هوم، وزير الخارجية في عهد إدوارد هيث في أوائل السبعينيات، ونيفيل تشامبرلين الذي شارك في حكومة ونستون تشرشل الحربية لمدة خمسة أشهر في عام 1940. 
خبر عودة كاميرون ذاع في البلاد يوم الاثنين الماضي، حينما بدأ رئيس الوزراء الحالي المحاصر بالتحديات، ريشي سوناك، تعديلاً وزارياً. ففي الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم، وأمام كاميرات التليفزيون، دلفت سيارة «رينج روفر» إلى شارع «داونينغ ستريت» وتوقفت بالقرب من المبنى رقم 10. كان الصحفيون يتوقعون نزول أحد وزراء الحكومة قبل دخوله إلى المبنى للحصول على قرار من سوناك. لكن بدلاً من ذلك، ووسط صرخات الدهشة المكبوتة للصحافيين، خرجت من سيارة «الرينج روفر» شخصية مألوفة وأنيقة: إنه ديف.
دخل كاميرون إلى المركز العصبي للحكومة البريطانية وكأنه لم يبتعد عنه يوماً قط. 

كاميرون، الذي كان زعيم حزب المحافظين منذ 2005، كان رئيساً لوزراء حكومتين بين 2010 و2016. وقد اكتسب سمعةً كسياسي صاحب أريحية راقية وحداثة منعشة ومخاطرة ذكية. ومع أنه تمكن من تعزيز مكانة حزب المحافظين كحزب طبيعي لحكومة وسطية توافقية في تلك السنوات، إلا أن فترة رئاسته للوزراء انتهت بشكل فوري حينما صوّت الشعب البريطاني لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، خلافاً لما دعاه إليه. وكان كاميرون هو الذي منحه تلك الفرصة من خلال الاستفتاء، لأنه لم يتخيل تلك النتيجة. وقد قدّم استقالته في غضون ساعات.
«بريكست»، كما أُطلق على انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أدت إلى مشاحنات طويلة، لكنها أخذت تتلاشى الآن تدريجياً كقضية سياسية ساخنة. أما المشكلة الرئيسية التي تواجهها حكومة سوناك الآن، فهي الاقتصاد الذي كان بطيئاً في التخلص من آثار الجائحة وتضخم أسعار الطاقة بسبب حرب أوكرانيا. 
وفضلاً عن ذلك، فثمة شعور بالانجراف الإداري في بريطانيا فاقمته إضراباتُ القطاع العام والحقدُ الصريح بين أعضاء كبار في حزب المحافظين، الذين ما زال بعضهم غاضباً من الإطاحة ببوريس جونوسون، صاحب الشخصية الكارزمية الذي فاز في انتخابات 2019، بسبب انتهاكه قواعد الإغلاق العام إبان الجائحة. هذا في حين يزعم أنصار جونسون أن سقوطه كان من تخطيط النخبة انتقاماً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومنذ اليوم الأول يخوض سوناك، الذي يبلغ من العمر 43 عاماً ويتميز بقدرات تقنية، والذي تولّى منصبه بعد حكومة ليز تروس التي دامت ستة أسابيع، معركة شاقة وصعبة. 
في الأصل، كانت تعديلات سوناك الوزارية مقررة في يناير المقبل، بهدف إضفاء جاذبية جديدة على حزبه قبل الانتخابات التشريعية العامَ المقبل. غير أنه تم تقديم موعدها حينما أيقن أنه لم يعد قادراً على تحمل تصرفات وتصريحات وزيرته في الداخلية سويلا برافرمان المناهضة للهجرة وغير المتحفظة، والتي أُطيح بها يوم الاثنين الماضي. ففي رسالة إلى سوناك يوم الثلاثاء، هاجمت برافرمان رئيس الوزراء، متهمةً إياه بالافتقار لصفات القيادة، والقلق المبالغ فيه بشأن «الرأي المهذب»، والفشل في وقف احتجاجات «مسيرة الكراهية» المناوئة لإسرائيل في شوارع لندن. 
قبل التعديل الوزاري، كان حزب المحافظين، الذي كان يحصد نتائج سيئة في استطلاعات الرأي، بدأ يتبنى نبرة متشائمة وغير مريحة. ولا بد أن سوناك خلص إلى أن ما يحتاجه الحزب الآن هو جرعة من سحر الوسط. ومن أفضل من ديفيد كاميرون لتوفير تلك الجرعة؟ فرئيس الوزراء السابق يتمتع بشخصية جذابة وفارهٌ كسيارة «بنتلي» العتيقة. صوت دخاني، وخدود متوردة، وأسلوب هادئ وفعّال في الحديث والإقناع.. إنه يملك كل المواهب السياسية. ولعل الأفضل من ذلك كله أن تعيينه سيشكّل حدثاً دراماتيكياً مفاجئاً. والمفاجأة سلعةٌ مطلوبة في السياسة، لأنها تُباغت المعارضين وتحرمهم من فرصة تحضير وتوجيه انتقاداتهم أولاً.
كان كاميرون قد أُدخل إلى «داونينغ ستريت» خلسةً من أجل لقاء سري مع سوناك أواخر الأسبوع الماضي. ولم يكن يعلم بهذا الأمر سوى عدد قليل من المقربين. وحينما وقف سوناك إلى جانب كاميرون ورؤساء وزراء سابقين آخرين وأعضاء من العائلة الملكية في حفل «ذكرى يوم الأحد» في «وايتهول»، لم يكن يخطر ببال أي من المتفرجين أنه بعد أقل من يوم واحد على ذلك سيعود إلى الحكومة.
غير أنه كانت هناك مشكلة واحدة: فكاميرون لم يعد سياسياً منتخَباً، بعد أن تخلى عن مقعده في مجلس العموم قبل سبع سنوات. ووزير الخارجية يجب أن يكون مسؤولاً أمام البرلمان. ولكن النظام البريطاني لديه حل أنيق لمثل هذه المشاكل، وإن لم يكن ديمقراطياً. وهكذا، منح سوناك كاميرون لقب نبيل مدى الحياة، مما يؤهّله لمقعد في مجلس اللوردات.
لكن هذا التعيين لا يخلو من مخاطر. ذلك أنه حينما كان رئيساً للوزراء، كان كاميرون مؤيداً للصين بشكل واضح، وهذه السياسة لم تعد صالحة أو ملائمة للحاضر. وخلال فترة توقفه بعد 2016، وقع في فضيحة ضغط سياسي. كما أنه من غير المرجح أن تثير عودته انبهار مؤيدي «بريكست» من العمال. بل إن هياجهم ربما ازداد أكثر بعد إصدار المحكمة العليا في المملكة المتحدة يوم الأربعاء حكماً ضد الخطة الحكومية لنقل طالبي اللجوء إلى رواندا. والأرجح أن هذه الانتكاسة القانونية الأحدث التي مني بها اقتراح يحظى بتأييد واسع ستؤدي لزيادة الضغط على سوناك من أجل سحب بريطانيا من «الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان»، وهو احتمال من شأنه أن يثير قلق المحافظين من ذوي «الرأي المهذب» مثل كاميرون. 
غير أن رئيس الوزراء السابق دبلوماسي محنك. كما أنه يعرف جيداً دهاليز السلطة في واشنطن وبروكسل، ولطالما كان من المتشككين حيال موسكو. ولعل الأهم من قيم السياسة الخارجية هذه أنه سيجلب معه رقياً وتفاؤلاً للمحافظين. كما أن وجوده قد يسمح لسوناك بتبني سياسات أكثر يمينية، بينما يبدو وسطياً.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سيندكيشن»